الشيخ العالم العلامة محمد بلكبير الجزائري

الشيخ العالم العلاّمة سيدي محمد بلكبير
تَخَرَّجَ في مدرسته أزيد من 70 ألف حافظ لكتاب الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : أ . #محمد_رميلات
مما يروى عن فضيلة الشيخ سيدي محمد بلكبير أن رجلا سأله عن سبب عزوفه عن التأليف فقال رحمه الله : " إننا مشغولون عن تأليف الكتب بتأليف الرجال " ، فقد تَخَرَّجَ في مدرسته أزيد من 70 ألف حافظ لكتاب الله بين سنتي 1952 م و1992 م ولا يزال مدد الله متواصل ، وكان تلامذته من مختلف جهات القطر ومن خارج الجزائر كالسودان والمغرب وتونس وليبيا وفرنسا والنيجر وتشاد ومالي ... وكان إطعامهم وإيوائهم وتدريسهم على نفقته الخاصة ... مدرسة الشيخ العالم العلاّمة سيدي محمد بلكبير جامعة من جامعات العلم الحقيقية بكل ما تحمله كلمة " جامعة " من ثقل ورنين وطنين في عصرنا هذا ... أول ما يُلفت الزائر إليها لباس الطلبة المعممين وقد ملئوا مسجد الشيخ وباحات المسجد وعليهم من الله أنوار وأسرار ... وقد بلغ عددهم سنة 1988 عندما كنت تلميذًا هناك 1200 طالب يُدرسهم الشيخ متون العقيدة كالسنوسية ، والجوهرة ، والأوجلي، وإضاءة الدجنة في اعتقاد أهل السنة ... ومتون الفقه كالمرشد المعين لابن عاشر ، والعبقري ، وأسهل المسالك ، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني ، و مختصرالشيخ خليل ... و متون اللغة كالأجرومية ، ومُلحة الإعراب ، وألفية ابن مالك ... ومتون الأخلاق والسلوك كسراج طلاب العلوم ، ونصيحة الهلالي ، وهدية الألباب ، والحكم العطائية ، وفي علم الحديث يجب حفظ متن البيقونية ... أما أوجب الواجبات فهو حفظ الراتب اليومي من القرآن الكريم على رواية ورش ، وقراءات المراجعة الفردية والجماعية ، واستظهار السور والأحزاب ، وضرورة استظهار القرآن الكريم كاملا وفي يوم واحد لمن أتم حفظ كتاب الله ... وتُقدّم زاوية الشيخ لتلامذتها على مائدة العلوم الشرعية أطباق لذيذة علومًا شرعية أخرى ، وكثيرًا ما سمعت الشيخ يترنم طربًا بهذا البيت :
قَدّمِ الأَهَمَ فإنَّ العِلَمَ جَمْ *** والعُمرُ ضَيفٌ زَارَ أو طَيفٌ أَلَمْ
سيدي الشيخ بلكبير عالم من علماء هذا العصر ، وقلما يجود الزمان بمثله ، وأحد الكواكب الزاهرة التي أهتدى بها الناس في المدلهمات ، غير أن كاميرات الإعلام الموجه قد أخطئته ، وسيرة الشيخ العطرة حملها تلامذته وساروا بها في مشارق البلاد ومغاربها ، ورددها فم الزمان بطولات ومآثر وأمجاد ، وأي أمجاد ، كان الشيخ يوصى الحاضرين من تلامذته الذين يعتلون المنابر عندما يتخرجون ، فيقول لهم "صونوا وظيفة الإمامة فإن الإمام كالثوب الناصع البياض أدنى دنس يظهر عليه " ... وكان يتخول تلامذته بالنصيحة بين الحين والآخر ويدعوهم إلى الجد والاجتهاد والمثابرة ومواصلة الليل بالنهار لتحصيل علمي مجيد ، وكان يحث على الإخلاص في طلب العلم ، وكثيرًا ما سمعته يقول " مَن عمل بما علم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم " ، وكان يردد قول الشاعر :
العلم زين بالعمـــل *** لا بالتباهي والأمــل
فمَــن أتى بحقــــــه *** بالفعل والقول كمــل
ومَن نَأى عن فعـله *** فهو حمار أو جمـــل
يحمل أسفارًا فـــلا *** يدري لمعنى ما حمل
الشيخ سيدي محمد بلكبير ملئت سجاياه الزمان والمكان.... ذات مرة وبينما كان يُلقى درسه بين العشائين ـ وكنت من الحاضرين ـ وإذا بصوت المؤذن يرتفع في مسجد مجاور فأمسك الشيخ عن الكلام وبقي صامتًا يُصغي لصوت الحق ، وكان المؤذن يُرَّجع الصوت بالآذان ويبالغ في زخرفته وتمطيط حروفه حتى خرج به من التغني إلى الغناء ... ولمّا انتهى من الآذان ، قال سيدي الشيخ عليه رحمة الله وكأنه يُخاطب المؤذن : " أَذّن آذانًا سَمْحًا وإلا فاعتزلنا " فكان ذلك آخر آذان يرفعه صاحبنا ، ومنذ ذلك اليوم لم نسمع له حسًا ولا رِكْزًا ... ومن عجائبه في الصدقات ، ومما يُروى عنه أن رجلا أهدى للشيخ 120 ألف دينار ، أي 12 مليون سنتيم في ظرف مغلق ، فتناول الشيخ الظرف بيد اليمنى وسلمه باليد اليسرى لأحد جلسائه وكانت سيما الفقر تبدوا جلية عليه ، فصاح صاحب الظرف يا سيدي الشيخ إنها 12 مليون ، فابتسم رحمه الله ، وقال : " المال مال الله ، وما أنا إلا كموزع البريد ، آخذه من ذا وأعطيه لذاك " ، ولعل القيمة المالية لـ 12 مليون سنتيم سنة 1984 ، قد تساوي 100 مليون سنتيم في وقتنا الحاضر ... الدنيا بالنسبة للشيخ رحمه الله لا تساوي عنده جناح بعوضة فقد كان يمتلك عقارات هائلة مخصصة لإيواء الطلبة في قلب مدينة أدرار ، ولو كان طالب دنيا لجعل منها فنادق تُدرُّ عليه أموالاً طائلة وأرباحًا معتبرة في زمن كانت فيها السياحة قائمة على سوقها آنذاك ، ولو كان طالب دنيا لباع حليب أبقاره لساكنة أدرار ولَجَنَى منه مالاً وفيرًا ، ولكن الحليب كله كان يُوَجَّه طازجًا لتلامذته وضيوفه ، وكذلك محصول بساتينه من التمر وغير ذلك مما بسطه الله عليه من رزق ... كان الشيخ رحمه الله يقطن في أبسط البيوت أثاثًا ورئيًا ... كان رجلاً ربَّانيًا ، تَعلق حبه بالله ، وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ، عاش حياته زاهدًا في الدنيا وهي في يديه ، وذلكم هو الزهد الحقيقي في أجلى معانيه وأبهى صوره ...كان رحمه الله لا ينام من الليل إلا قليلاً ، حتى إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر يخرج من بيته يمشي الهوينا ويترنح في خطواته المتثاقلة كأنه غُصنُ البَانِ تَمِيلُ به النسائم العليلة يمينًا وشمالاً ، فيتجه إلى المسجد وفي طريقه يجد ذوي الحاجات وقد اصطفوا في انتظار ما تجود به يده الكريمة ، فكان يُعطي جميع السائلين " عطاء مَن لا يخشى الفقر " ... كان يتصدق على كل مَن يُصادفه من السائلين بحزمة من الأوراق النقدية التي تُدخل السرور إلى قلوبهم ، أوراق نقدية لا يحسبها ولا يعدها ... وكان ذلك ديدينه كل صباح ، وفي مسجده العامر بوسط مدينة أدرار يؤم المصلين كعادته في صلاة الصبح ... لا يَزال صوته الشجي المنبعث من محراب الجامع الكبير يَرِنُّ في أذني كأنما أسمعه الآن ... ولمّا تنقضي الصلاة يبقى لله ذاكرًا شاكرًا تاليًا لكتاب الله إلى أن ترتفع الشمس قليلاً فيصلى ركعتين في مصلاه ويعود إلى بيته فلا يمكث هناك زهاء ساعة أو أقل من ذلك ثم يتجه إلى صالة الضيوف فيتناول فطور الصباح مع زائريه القادمين من كل فج عميق ويجالسهم ويمازحهم ثم يغادرهم في حدود الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة ليتجه إلى قاعة فسيحة الأرجاء ، واسعة الفناء ، في الطابق الأول ، تُسمى " المجلس " هنالك يبدأ دروسه المختلفة لكبار التلامذة ممن بلغوا في العلم منزلة متقدمة ... فينتقل بين مواد دراسية مختلفة كما يتنقل النحل بين الزهور ليجمع الرحيق من هنا وهناك ليخرجه للناس عسلاً مصفى فيه شفاء للناس ، ويبقى على هذه الحال إلى أن تميل الشمس إلى الزوال قليلاً ، ولا يغادر مجلسه ذاك إلا في حدود الساعة الثانية عشرة والنصف أو الواحدة بعد الزوال ، ومنها يذهب مباشرة إلى قاعة الضيوف فيتناول طعام الغداء مع مَن حَضر ، وقد يصل ضيوفه إلى المائة والمئتين كل يوم ، وكانوا جميعًا لا يصدرون إلا عن طعام مختلف ألوانه ، وأطباق من التمر ، وقداح من اللبن ، ثم تدور بينهم أكواب الشاي المنعنع الذي تنبعث روائحه الزكية في أرجاء المكان ، وبعد الغداء وفي حدود الساعة الثانية بعد الزوال يتجه الشيخ إلى بيته ليأخذ نصيبه من الراحة ، فيغفوا إغفاءة القيلولة إلى أن تنكسر حَمَّارة القيض قليلاً ، لأن مدينة أدرار ومنطقة توات عمومًا معروفة بحرّها الشديد في فصل الصيف ... وفي حدود الساعة الرابعة مساءًا يؤم الشيخ المصلين لصلاة الظهر ولا يغادر محرابه حتى يُصلي العصر ، وبعيد صلاة العصر مباشرة يشرع في ورده اليومي فيذكر الله ذكرًا كثيرًا ، ويسبحه سَبْحًا طويلاً زهاء ساعتين ... ثم يغادر إلى بيته فلا يخرج منه إلا قبيل المغرب بدقائق معدودات ، ليؤم الناس لصلاة المغرب فإذا انفلت من الصلاة أدى ورده ثم ينتقل من محرابه إلى متكأ له في وسط المسجد وهناك يشرع في الدرس بين العشائين ، أو هي بالأحرى مجموعة دروس منتظمة موجهة لعامة المسلمين وليست كدروس الصبيحة الموجهة إلى خواص الطلبة ممن بلغوا في العلم مراتب علية ... ويتأخر بالعشاء قليلاً... وهكذا هي أيام السنة كلها ، وقد زاره الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رحمه الله ، ومكث لديه أيامًا وليالي ، فلم يتغير برنامج الشيخ في ذكره وأوراده ودروسه ... كان السيد الرئيس يجلس القرفصاء في حلقة دروس الشيخ متواضعًا مصغيًا مستمعًا كأن على رأسه الطير ويأكل مما يأكل عامة الضيوف ولم يتميز عن الناس بشيء ، كما كان يتردد على الشيخ جل الوزراء والسفراء والجنرالات وقادة الأمن وعلية القوم فلا يحفل بأحد ولا يُميزه باستقبال خاص أو طعام خاص .. كان جميع زوّاره سواء لا فرق بين أميرهم وحقيرهم ، ولا بين غنيهم وفقيرهم ، ونضير هذه لعلمية الجليلة قررت جامعة وهران منح الشيخ شهادة الدكتوراة الفخرية في حفل بهيج حضره جلة من العلماء والدكاترة ، فلم يحفل بهذه الشهادة ولم يُعرها أدنى اهتمامه ... كان فضيلة الشيخ سيدي محمد بلكبير يحث تلامذته على أخذ العلم من أفواه الرجال ، وملازمة المشايخ والعلماء والفضلاء ، وكان يقول " إن للكُتب آفات تفرقها ، فالنار تحرقها ، واللص يسرقها ، والفأر يُخرقها ، والماء يُغرقها " .. بل يتمايل طربًا وهو يردد قول الشاعر :
مَن يأخذ العلم من شيخ مشافهة *** يكن من الزيغ والتحريف في حرم
ومَن يأخــذ العــلم من صحـف *** فعلمــه عنـــد أهل العـــلم كالعـــدم
وتراه يردفها بقول القائل :
ليس العلم ما حَوَاهُ القِمَطْرُ *** إنما العلم ما حواه الصدر
كان فضيلة الشيخ بلكبير البحر الذي لا ساحل له ، كُنَّا نسابق كلامه بأقلامنا في دروسه كي نقيد الفوائد التي لا تخلو منها موائد دروسه الحافلة بألوان الكلام المنتقى كأطايب الرطب ، لكنها كانت تند منّا لكثرتها ... نلاحقها في ثيايا حديثه العذب السلسبيل المسلسل فلا ندرك منها إلا النزر اليسير ... وهذا النزر اليسير ، قد يكون كراسة كاملة من الحجم الكبير ، وبعد ما ينقضي الدرس يلتفت الجادون من التلامذة لبعضهم البعض ليتسائلوا بينهم ... ماذا قال الشيخ في الحكمة التي تتناول الموضوع الفلاني ؟ ماذا قال الشيخ في الأثر النبوي الشريف الذي ينص على كذا ؟ ماذا قال الشيخ عن المسألة الفقهية التي ذكرها آنفًا.. ويغدوا هذا يكتب عن ذاك ، وذاك ينقل عن هذا ... وكثير ما تستمر المذاكرة بين اثنين أو أكثر إلى ساعات متأخرة من الليل .... كان للشيخ سيدي محمد بلكبير بُعد نظر فقهي تجاوز به أقرانه من الفقهاء والعلماء ... أخذ بفقه الإمام مالك من كل أقطاره ونواحيه ، وكان واسع الإطلاع على نوازل عصره ، طويل الباع في كل ما استَجَدَّ واستُحدِثَ بين المسلمين ... ما رؤي يومًا يُلقي دروسه من قصصات ورق يضعها بين يديه ، ولا ينقلها من كتاب لديه ، كانت دروسه في العلوم الشرعية كلها عن ظهر قلب ، كان العلم يتفجر من نواحيه ، وتنطق الحكمة من جوانبه ، كانت فتوحات الله عليه كأنها مزن السماء الهاطل بكل المعارف والعلوم ... حياة الشيخ سيدي محمد بلكبير حياة عامرة بالعلم والذكر والصدقة وأعمال البر سَوَاد الليل وبَيَاض النهار ... زاره العلماء فاندهشوا ، وجَلَسَ الدكاترة والمشايخ في حلقات دروسه فانبهروا ، ورأى الناس سيرته العطرة فحارت عقولهم في جلائل أعماله ومناسك بطولاته ... هذا جزء من بعض ، وبعض من كل ، عن حياة شيخي وسيدي محمد بلكبير قدّس الله سره ، وأظله الله بسحائب الرحمة والرضى والرضوان ، وجعل مقامه في علّيين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقًا .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تاريخ ومعلومات عن عرش الحساسنة ولاية سعيدة

المرابطين اولاد سيد الحاج بن عامر ولاية سعيده